كان يحمل حقيبته يجري بسرعة لاهثاً ، يحاول اللحاق بالقطار الأخير ، فجأة التفت خلفه ووجد رجلا كبيرا في السن يسأله المساعدة ، كان في صراع مع الوقت !
هل يلحق بالقطار؟
ام يساعد الرجل !
في النهايه قرر الذهاب اليه ومساعدته ، ولكن القطار قد فاته ، فطأطأ راسه وبدى الحزن على ووجهه جلياً
شكره الرجل ، وسأله :
- مابك ياولدي ؟
اجابه :
- كان لدي مقابلة عمل اليوم ، وهذه كانت فرصتي الوحيدة بعد أن كنت عاطلاً لسنوات ، رأى الحزن يرتسم على وجه العم
، لكنه لم يتوقف عنده طويلاً ، فالشفقة على حاله اصبحت جزء لا يتجزأ من معاناته طوال السنوات الماضية ، والأسوأ انها باتت تثقل قلبه ، وتحزنه على حاله ، اكثر من الواقع الأليم
، ودع الرجل بكلمات مقتضبة عائداً هائماً على وجهه ..
غير أن للصدف والاقدار كلمة أخرى !
فقد شاهد صديق في طريق عودته ، وعرض عليه الذهاب معه في سيارته ، سيدرك ما فاته حمدا لله !
في الطريق قال له صديقه حدثني عن احوالك ؟
فقال : يا اخي قصتي طويلة عندما أنهيت الدراسة
قررت العمل مع تلك العائلة الاستقراطية..
قال له صاحبه وما معنى الاستقراطية ؟
رد عليه يلعن الي بدو يتفلسف بكلمات لا يعرف معناها خلص انسى الموضوع.
ثم عاد له صاحبه وقال بجد حدثني قصتك
فقال :
كنت المتفوق ع دفعتي ، درجاتي ومستواي العالي اصبح مضرب للأمثال ، من البيت إلى الجامعة والعكس ، لا اذهب يميناً ولا شمالاً ، لم تكن تغريني الخروجات ، والرفقة الجامعية ، صديقي الصدوق كتابي ، حتى دخلت حياتي!
مها!
تعرفها صحيح ؟
رد صديقه الذي يكبره بأعوام بدهشة :
مها !
تلك الطالبة الجديدة انذاك !
صمت للحظات
فصديقه هذا تخرّج قبل ان يشهد ما حدث وقتها ، وكأنه استيقظ من سرحانه
فأكمل ...
قال نعم مها تلك الجميلة المجتهدة بنت الذوات
اخذت قلبي وعقلي فقررت أن اجاريها وألبس ثوب اكبر مني..
فازدريت اهلي وتكبرت عليهم ، وكانوا اكبر ضحايي
ومن هنا بدأت اخسرهم بل قل اخسر نفسي
ثم اغمض عينيه وظهر الألم والأسى على وجهه
وارتجفت شفتيه
ثم قال :
فعلت المستحيل لأظفر برضا اهلها ، لم يكن لحبها أي معنى دون رضاهم ، عكسي انا !
كنت في غفلة من امري ، حتى صفعني الواقع ، وأراني ما كنت اصنعه !
لقد بعت روحي لأجل حبها ، بينما هي لم تعطيني سوى ما هو مفترض ، أن يعطي الأنسان شخص آخر !
لست ألومها !
كنت أنا من انغمس في دوامة حُب ، ليس لها آخر
وهكذا وقبل أن اخسر روحي ، تركت كل شيء ، وتركت الجامعة قبل تخرجي بعام !
امي بكت على حالي ، ووالدي راقبني بصمت وانا اعاصر واقاوم ما يعتلي روحي !
اما بقية الناس فلاموني ، لم اخبرهم السبب ، بالاصل ماذا اقول ؟
الحُب كان بلائي !
وضياع مستقبلي !
اليوم انا بخير عدت لأهلي واستعدت حياتي
غير أني فقدت شيئين
ذلك النابض في جوفي
وشهادتي الجامعية
هل ارضيت فضولك الآن ؟
صمت صديقه لبقية الرحلة مدهوشاً ، فقد ظن أن الحب الحقيقي لم يعد موجوداً ، لم يتحدث سوى بضع كلمات قبل أن يصلوا لوجهتهم ، توقف يودع صديقه ممتناً ، تقدم لباب الشركة ، تنفس بعمق قبل أن يدخل للمقابلة ، قبل أن ينصدم وهو يرى آخر وجه توقع أن يراه بحياته !
مها !!!!
نعم مها فقد أصبحت هي المديرة العامة لتلك الشركة
وجدها تقف على الباب ، خنقته العبرات ، فهو لم يصل لها ولم يصل لشهادته ، لم يصل سوى للغرور الذي ملأ يوماً جوفه !
نعم وجدها تقف على الباب تراقب موظفيها ، فهي كانت دقيقة تحب كل شيء أن يسير منضبطاً ، فلا تتساهل في عملها ، كما كانت في دراستها ، وفي تلك اللحظة لمحته من بعيد وابتسمت !
ابتسامة الصديق الذي يشاهد صديقه !
وقالت له :
تفضل الى قاعات الانتظار حتى انهي عملي ...
ثم جاءت ومعها شيء بسيط تأكله ، نعم انها ساندويشة كانت قد أتت بها من البيت
فقدمت له تعزمه ليشاركها بها فابتسم من بساطتها ،وأخذ لقمة منها وابتسم ..
وهي لا تقل ابتسامتها عنه ..
وبدأوا يتحدثون
فقالت :
كيف حالك ؟
لم يكن سؤال
نظرة عينيها تخبره بذلك ، كيف لا وهو يعرفها اكثر من نفسها
تعلو على محياها نظرة المجاملة التي تضعها
حين تريد الخروج من مأزق !
" بخير "
اجاب بإقتضاب !
سيل من الكلمات بالكاد كبحه بعدها ، الكثير والكثير كان يريد قوله ، لكنه هنا يصمت عاجزاً عن ترك المجال لحروفه
لطالما تخيل هذه اللحظة بعد أن غادر جامعته ، ان يلتقي ب مها صدفة ، ثم تندفع نحوه
معاتبة
غاضبة
يريد أن يراها نادمة!
متوسلة إياه
يريد أن يراها تعيسة
ويكون هو منقذها
ان يكون حبه هو ملجئها وملاذها
فيلتقف يداها ويمضي بها
للحياة التي كان يحلم بها معها
حين رآها أول مرة ..!
لكن هيهات
هاهي ذي سعيدة
وكأن الشمس اشرقت من عيناها ، وإبتسامتها تكاد تُذهب ما تبقى من لُبه !
فلم تبقي ابتسامتها له شيء يفقهه ، ولم يبقى معه سوى الوهم الذي صنعه لنفسه ، فأراد أن يخرج مما هو فيه
وبدأ يتنغم بأغنية لطالما كان يغنيها ..
إشتقت إليك.. فعلمني
أن لا أشتاق
علمني
كيف أقص جذور هواك من الأعماق
علمني
كيف تموت الدمعة في الأحداق
علمني
كيف يموت القلب وتنتحر الأشواق
...
هنا قاطعته وقالت لا زلت تعيش نفس التعاسة ؟!
الحب ليس بيت من الشعر نتغناه ، فالبيت يحتاج لميزان ، وقواعد تبنى عليه ، والحب ليس ضمة من الورد تهدى ،
فالورد بحاجة لأرض يزرع بها..
لا تبنى الحياة بالأحلام ، ولا بالامنيات ، انما تبنى بالتوكل والجد والسعي والاجتهاد !
احببتك اعترف لكنني لن اسلم نفسي لمن لا يعرف قيمة نفسه ، ولا قيمتي !
اعذرني ترانيمك تسحر الحمقى لا العاقلين !
ثم التفت وأدارت ظهرها له وقالت:
سأذهب لأكمل عملي ، وبإمكانك زيارتي متى اردت في هذا الوقت .
استغرب منها ومن قوتها ، خرج مهزوزاً ضعيفاً لا يلوي
على شيء سوى التفكير !
التفكير بسبب تعلقه الشديد بها ؟
لساعات بقي مذهولا في عالمه الخاص ، لساعات راقب البحر ، يحاول التنفس ، في مخاض عسير ، يأبى فيه صدره أن ينشرح !
تصلبت قطرات خجوله على مقلتيه ، كانت كلمات مها هي نقطة النهاية ، لحكاية اخذت من عمره الكثير !
حبه لمها كان حاجة ولم يكن إضافة جميلة لحياته ، لذلك من دونها يعيش المرار !
حان الوقت ليملأ تلك الحاجة بنفسه ، لا يعقل أن يدخل في علاقة صحيحة وهو ناقص ، سيأخذ منه الطرف الآخر كما أخذت مها بالضبط ، نهض ببطء ، كمن يقوم من ساحة معركة ، مثقل بالجراح ، لكنه منتصراً منتشياً ، فقد هزم عدوه ...
واول هزيمة له ، علمته بأن الحياة الحقيقية لا تؤخذ بالعواطف والكلمات ، وقد علم أن الحياة بحاجة لهمم تعانق السماء ، ومن أراد خلع الجبال عليه الأخذ بالاسباب ، ومن هنا قرر أن يبني له من الصخور منزلاً ، ومن البحار جزراً ، فسعى بأول خطواته نحو المجد ، وتذكر تلك اللقمة من يديها وعلم بأن النجاح لا يقاس بما نأكل أو نلبس انما بالانجاز ، فسعى لهدفه حاملاً معول الهدم والبناء
هدم الماضي وبنى المستقبل ، فعاد بداية إلى أهله معتذراً فالذي لا خير فيه لأهله لن يكون من باب أولى لغيرهم
، وتدرج بخطواته دون استعجال ، بروية وبُعد نظر حتى بلغ لغايته ، وهنا عاد...
عاد لشخصيته التي كان عليها ، ملأ يومه بالجد والاجتهاد
، عادت له احلامه دفعة واحدة لتجعله يحلق في سماء
كان يطمح لها منذ الصغر ، تدرج عمله من ورشة صغيرة
الى متوسطة ، ثم شركة يعمل فيها مئات الأشخاص
تحت إمرته!
بدا له أن خيال مها قد اختفى من داخله ، لكنه متى اتيحت له الفرصة تقصى عن اخبارها ، ليس لأجل شيء ، بل كمن يمرّ ع حيّ كان يسكنه ، فيعيده الحنين من وقت لآخر ليرى أخباره ، لقد تزوجت وانجبت ، وتطلقت ، وهو لازال يشيد إمبراطورية من المال والأعمال !
يرضي والديه ، ويشغل بها نفسه ويملأ حاجته ، وكلما ذهب لمدينتها واقترب من شركتها ، خطر بباله مجنون ليلى وهو يتغنى بمحبوبته !
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى.... أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي.. وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الديارا .
ثم تأخذه هذه الابيات للماضي وتأسره
وتجعله يقترب أكثر فأكثر ثم ينشد !
وإني لأَستَغشي وما بي نَعسَةٌ
لَعَلَّ خيالاً منك يلقى خَياليا
حتى جاء ذلك اليوم الذي وجد في نفسه وقلبه ووجده
، فارتجل من سيارته اليها ، فابتسمت ابتسامتها ورحبت به
وقالت بأمكانك ان تنتظرني في تلك القاعة
الى ان انهي عملي ..
ثم جاءت إليه
فأخرج ساندويشة أعدتها له أمه فابتسمت واحمرت وجهتيها وقالت لن أتردد في أخذ لقمة منها ..
هنا عرف معنى السعادة ولذة الحب مع البساطة
فقرر أن يقاوم تلك المشاعر ، وذاك الحب الذي لايزال بداخله يتأجج حينا وتخمد ذروته حينا أخر ، وعرف أن الحب لن يصنع منه ذاك الشخص الناجح
الذي طالما كانت مها بين حين وأخر تتندر بكلماتها
المعهوده كلما قدِم لزيارتها ، وان الحب لن يصنع بيتاً ذا قواعد متينه ، وانها ستقف بمفردها لتصنع مجدها دون
ظل رجل ، كما كانت جدتها تردد دوماً :
ظل راجل ولا ظل حيطه
ارادت ان تثبت لجدتها ،أن ظلها هي فقط هو من يسندها
إلى ان تزوجت وانجبت واكتشفت
تلك الحقيقه ، وأن الرجل الذي اختارته واصبح اباً لابنائها لم يكن ذاك الذي تحلم به ، وتبعثر حلمها من أن يكون كما تمنت ، ولكن هيهات مها تلك الناجحة الصارمة بقرارتها وانظمتها ، كان القدر أقوى من كل ماخططت له
وقررت أن تنبذ كل الرجال !
بدا أنه اصبح يعرف بما تفكر به مها ، سابقاً كان يحبها كما يريد ، والآن تغير حبه ذاك تماماً !
إنّ اسمى معاني الحب ، أن تُحب الطرف الآخر كما يريد هو
لا كما تريد أنت !
لم يكن الوصول لهذه المرحلة سهلاً ، لقد خاض هذا الحب مخاضاً عسيراً حتى ولِد من جديد ، امسك بيدها لأول مرة في حياته ، لكنه سرعان ما افلتها ، لم تكن حركته تلك الأ ليجعل كل حواسها تلتفت إليه ، ويقول الكلمة التي هو مستعد لها أكثر من أي وقت مضى !
- مها لنتزوج !
هنا اخذتها العبرات وقالت
الم تسمع هوس وهي تقول :
أنني تزوجت وانجبت وتطلقت
فما ذنبك وانت تستطيع اليوم أن
تتزوج بمن هي اجمل وافضل مني
نظر إليها وقال :
ومن اجمل منك ومن يشبهك ويشبه قلبك ؟!
ثم أراد أن يخرجها مما هي فيها ، فبدأ يترنم بتلك الأغنية :
الحلوة، الحلوة، الحلوة، الحلوة
برموشها، برموشها السودة الحلوة
شغلتني ناديتني خذتني، وديتني بعيد وجابتني
والشوق، الشوق غلبني، الشوق كان حيذوبني
لولا ضحكتها الحلوة ...
هنا ابتسمت وتحدثت أثناء ضحكها
لا زال في صدرك وقلبك ذلك الصبي ؟!
قال : من لم يحمل بصدره قلب طفل وصبي كيف سيهنأ !!
اريدك كم كنت وكم انت فأنت انت في قلبي وفكري .
ثم وضع يديه في جيبه واخرجهما وهو يضمهما وقال: اختاري إحداهما
فاختارت فخرجت حبة شوكولاته ثم فتح يده الأخرى وإذ بحبة أخرى ثم نادى :
لا خيار لي كل الخيارات تؤدي اليك
هنا أدارت ظهرها وهي تبتسم وقالت :
سأذهب لأكمل عملي وانتظرك اليوم مساءا لتأتي للبيت لتخطبني ....