الموضوع: شاي وحكاية ~
عرض مشاركة واحدة
قديم 06-08-24, 08:21 PM   #363
نجمة

الصورة الرمزية نجمة

آخر زيارة »  اليوم (05:18 AM)
المكان »  أي مكان اخطو فيه ... يزهر ~
الهوايه »  صاخبة ولكن ...

 الأوسمة و جوائز

افتراضي



فتحت عيناي على صوت هديل الحمام ، قفزت بسرعة ، تعثرت بكومة ملابس رميتها قبل نومي جانبا وأنا انظر من النافذة ، مسحت اللعاب عن فمي وباليد الأخرى أعدل فيها شعري ، رأيته يطعم الطيور كعادته كل يوم
- عامر ! عامر ! سآتي بعد قليل اطعمها سريعا .
صحت فيه ، لم يلتفت ، اعرف انه سمعني ، سأشده من اذنيه إذا تجاهل أمري ، جريت اشد الخطى خارجا بملابس النوم ، قبل أن تمسك بي أمي ، رفعت البنطال إلى ركبتي حتى لا اتعثر مرة أخرى .
- ها قد اشرقت الشمس !
صاح بها عامر وقد انهى عمله ، ينزل من على السلالم وهو يشير لشعري ، كالشمس حول وجهي ، لم اهتم ، اخذته من ذراعه قبل أن يسمعنا عمي .
عامر هو ابن عمي ، نسكن متجاورين ، يكبرني بعامين ، نحن الأصغر في العائلة والمدللان ، كل إخوتنا قد تعدوا مرحلة الطفولة ولم يبق لنا سوى بعضنا البعض ، لذلك أنا اتحمل هذا الأحمق دائما ، فهو صديقي الوحيد ولا املك غيره .
وصلنا لوجهتنا ، صوت المواء الصغير اعادني للواقع ، وجدنا هذه القطط البارحة ، يبدو ان والدتهما لم تعد كما توقعت
- هل أحضرت الحليب ؟
- نعم ، ومن غيري يفعل كل شيء !
قالها بحنق
- اصمت امك طيبة وتحبك كثيرا عكس أمي ، تعلم أن صبرها بدأ ينفذ مني ، هي قالتها حرفيا ستقتلني لو فعلت أي خطأ آخر ، آه لو ترى عيناها وهي تقولها !
- كفى كفى ، واطعمي المسكينات .
شربت الحليب ولعبنا معها او هكذا بدا لنا ،سقطت من يدي مرات ،عامر يصيح مرعوباً ، هو يعشق الحيوانات وهي تبادله المشاعر ، أحاول التعلم منه كيف اعتني بها لكني افشل دائما ، مع ذلك واصلت المجيئ لأيام اتفقدها، إلى أن تفاجئت بأمي يوماً وهي تقفل الباب قبل ذهابي ، وتجهز والدي معها لجلسة خاصة ، كان الجو مشحونا على غير العادة وكأنها بركان على وشك الإنفجار .
- انا لن اتحمل أكثر ، ابنتك اصبحت بعمر الثالثة عشرة وهي تجري مع الصبيان ، ربيت اخواتها جميعا ولم يفعلن بي مثلما فعلت ، انا تعبت !
صاحت بذلك وهي تبكي ، لأول مرة أرى أمي تبكي ، تملكني الخزي و لُجم لساني .
- هي لا تستمع لي ، انظر لشعرها وملابسها الممزقة ، خزانتها مليئة بالملابس الجديدة مع ذلك تبدو كالمشردة .
اكملت وهي تشير بيدها تتجاهل النظر لي ووالدي يهز رأسه بصمت ، يعلم أنه سينال نصيبه ايضا ، اغمض عيناه وهو يتوقع كلمتها التالية !
- أنت السبب دللتها وافسدتها ، لكن طفح الكيل ،إما أن تترك امر تربيتها لي او اترك لك البيت ولابنتك وافعلوا ما تشاؤون .
فتح عيناه وهو يرمقني بنظرات العتاب والعجز ، لن يدافع عني ، لا لا ، ارجوك لا تفعل ، اشرت إليه لكنه كان اسرع مني
- بل افعلي ما تريه مناسبا !
وهكذا مسحت أمي دموعها وهي ترمقني بنصر
نصر ! هل يعقل ؟
نعم لقد كان نصرا ، لأن ذلك الباب لم يفتح بعد ابتسامتها تلك إلأ للمدرسة ، ثم يقفل علي طوال اليوم ، افتقد عامر ، افتقد اللعب معه ، ذلك المحتال لم يسأل عني حتى !
مرّ اسبوع ، كنت حانقة على الجميع ، لا اتكلم معهم ، امي تسرح شعري وتلبسني كما تريد ، تقول لي كما أبدو جميلة الآن مع ذلك ارمقها بعبوس حانق ..
ذات يوم سمعت صوتا على نافذتي ، عرفت من يطرقها لكني لن افتحها سريعاً بل سأعذبه كما عذبني لأيام ، ترددت قليلاً ، فتحتها وأنا ادعي الغضب ، تسامرنا لساعات ، كان حنونا على غير العادة ، صوته دافئ ، يهمس بالكاد اسمعه ، وكأنه يلاعب قططه الصغيرة ، لا ينظر لي مباشرة كما كان يفعل ! بت ليلتها أفكر بغرابته وما زاد حيرتي كان ذلك الارتباك الذي يعلو ملامحه كلما رفع لي عيناه !
كان يحضر لي بعض الروايات والمجلات ، نتحدث عن المشاهير وابطال القصص ،و لا نتفق بارائنا ابداً ، قلبه مرهف واحاسيسه الرقيقة لا تشبهنا ، دائما ما تجعلني امازحه بقولي
_ ربما تم تبديلك في المشفى يوم ولادتك !
هكذا مرت الأشهر ، يضع لي خطوطا على فقرات من الرواية او يكتب بعض السطور التي يؤلفها نهاية الصفحة ، المس خطه الجميل فتتباطئ انفاسي ، تتسارع نبضات قلبي وترتجف يداي ، ما بي ؟

مضى عام على ذلك الحال ، بدأت الأجازة ليفاجئني نبأ سفره ، لم يودعني حتى ، غضبت كثيرا و بكيت حتى جفت عيناي ، أقسمت بعدها لن اكلمه إذا عاد أبدا..
حين عاد بعد بضعة أشهر لم أقاوم اخذ لمحة له من نافذتي ، كان وكأنه هو ، ملامحه هي ، غير أنه أصبح فارع الطول ، ماذا كان يأكل هناك ؟
لم يزد طولي سوى بضع سنتيمترات قليلة ، شعرت بالغيرة و النكرة ، لم يعد بهيئة عامر الذي اعرفه مما سهّل علي هجره ، طرق النافذة لأيام ، لم استجب ، حتى ملّ ولم ياتي بعدها أبدا ..
على مدار عامان في كل صباح يطعم طيوره ، ثم يقف لدقائق ينظر لنافذتي كأنه يعلم أني خلف النافذة ، استرق النظر إليه ، ثم يغادر بهدوء ،
اندلعت الحرب ، تحرق معها الأخضر واليابس ، تيتم الصغار ، ترملت النساء ، شبح الموت والجوع يحاصر الجدران ، بقلب ملكوم ودعت والدي ، والدي الحنون يحمل سلاحا ، يجرّ أخي الذي يحاول اقناعه بعدم الذهاب ، يخرج مخلفا وراءه قلوب خاوية ..

لكن تلك الليلة لم تنتهي وكأنها تقول
" لتتجرعي الألم دفعة واحدة "
صوت على نافذتي اعرفه كما أعرف دقات قلبي ، اضع الخمار على رأسي وافتحها بيد مرتجفة
كان هو
كما كان قبل سنوات
مختلف كثيرا
لكنها نفس النظرات

_ أنتِ بخير ؟
هززت رأسي وانا اشيح وجهي ، امسح دموعا تأبى التوقف !
_ انا سأذهب ايضاً يا ليلى ، اتيت لأودعك والدك لم يذهب للجبهة بعد ينتظر قدومي .

التقط أنفاسي التي توقفت للحظات وكل الذكريات تداهمني دفعة واحدة
احلام عامر الصغير ، سيكون مقاتلاً ، سيقضي عل الفاسدين ، سيكون حاكماً عادلاً ويحرر بلاده ، عن شغفه بالسلاح ولباس الجنود وطريقة مشيهم !!
_ والدتك لن تسمح لك .
قلتها بدون تفكير ، لن اسمح له بالذهاب
ابتسامة صغير علت محياه
_ لن تعلم ، جئت لأقول لك شيء
زفر بتوتر ثم رفع عيناه
_ اريدك أن تنتظريني ، اريد اقضي بقية عمري معك ، سنتزوج حال عودتي .
كأن عيناه تلك تسبر اغواري ، تعرف كل اسرارها ، لمحاتها
ينتظر مني جوابا ، ماذا أقول وأنا بعد حيرة طويلة ، اكتشف بهذه اللحظة مشاعري ، انا متيمة بحبه !!
كأن سدا عارما انفجر فلا تذكرت دموعي وأنا اودعه ، ظله الذي ابتعد ببطء ودون أن ينظر للخلف ، مرضي الذي استمر لأسابيع ، أصوات القنابل والدموع كالحلم من بعيد استمع لها ، المستشفيات مكدسة بالمصابين والأوبئة تفتك بالأرواح بلا رحمة ، فلا دواء يخفف مابي الأ لمسة أمي الرقيقة وهي تقرأ ما تيسر من القرآن ..
ذات صباح صحوت على همسات صوت عمتي أم عامر ، تدس بيدي ورقة مجعدة
_ هذه من عامر لك اقرأيها

إلى ليلى :
الجميع موتى عداي ، يتنفسون بلا رئتين ، يضحكون بلا اسنان ، يتحدثون بلا أصوات ، هدير القنابل يصم الآذان،
وحرارة الرصاص تشق الصدور ، إنها الحرب يا ليلى ، والكل مجنون سواي !!
مع ذلك انا بخير انتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب لأنفذ وعدي ، كوني بخير دائما ...

طويت الرسالة ووضعتها تحت وسادتي ، مسحت يدها يدي بلطف ...
_اتعلمين ، اعرف ما بقلبيكما منذ سنين وحين تحجبتي عنه وعدته اني سأخطبك له ما ان يبلغ الثامنة عشرة ، على شرط ان يبتعد عن نافذتك ويدخل البيت من بابه ..
مسحت وجهها وقد خانتها دموعها وتلاحق زفيرها ثم اكملت :
_ هو يحبك كثيرا ، أكثر من نفسه ، قبل الحرب تحدث مع والدك وقد اعطاه وعدا لكن هاهي الظروف تحيل بينه وبين مراده ، لذلك لِحق بوالدك سيعتني به وسيحاول اقناعه بالعودة ..

كنت انا كل حياته ، ليس حلمه من دفعه للذهاب بل ليقنع أبي !
وكأن هذه الأيام لا تكف عن مفاجئتي
كتبت له بخط مرتجف بضع كلمات سلمتها لها بلطف
" عُد يا عامر ، أنا ووالدتك نحتاجك "

مضت الأيام مريرة وحالي تحسن قليلاً ، بذرة أمل تمنعني من السقوط مجددا في ظلمات المرض ،
أن يعودوا قريبا

وقد كان !
في يوم ممطر وصل لنا والدي في نعش محملاً على الأكتاف ، أي حزن بعد حزني هذا ، وأي وجع بعده
منعتني والدتي أن اقبله قبلة الوداع ، وقد حول الصاروخ جثمانه لاشلاء ، ما بين كل شهيق وزفير ادعو أن يكون ذلك
آخر نفس لي ...
بعد ايام وقد بدأت سكرة الحزن تخف تذكرت عامر
_ أين عامر ؟
سألت امي ، تحاشت النظر إليّ
_بالله عليك قولي !
خرج صوتي اشبه بأنين متقطع
_ هو في المشفى اصيب بشظية برأسه ، لكنه
قالتها بتردد تمسح دمعات لا تتوقف منذ فقدنا ابي
_ لن ينجو وإذا استيقظ من غيبوبته فلن يعود كمان كان ..
عبر ألم غريب في جوفي ، يتصاعد حتى رأسي ، كأني احترق ، تحول جسدي لهيكل عظمي ، شعري يتساقط على فراشي خصلة تلو الأخرى ، في كل يوم أرى وجه جديد لطبيب او طبيبة ، ابتلع العشرات من الادوية مع ذلك حالي يزداد سوء ..

كالحلم ذلك المشهد ، استيقظت على صوت عامر ، بالكاد استطعت النهوض وفتح النافذة ، نعم !
كان هو يطعم الطيور !
ابتسمت قبل أن تذوب ببطء على منظر الدماء واشلاء الطيور ، يسحب رؤوسها واحدا تلو الآخر
لا اعرف كيف بقيت على قيد الحياة يومها ، صحت وانا اتذكر ما قالته امي ، لقد بقي يومان مصاب ، يحتضن اشلاء والدي حتى جاءت فرق الانقاذ ، قضيت اطول ليلة في حياتي قبل أن اصبح يوما وأنا محملة على الناقلة في رحلة علاج طويلة لم تنتهي إلى الآن ...


 
التعديل الأخير تم بواسطة نجمة ; 06-08-24 الساعة 08:27 PM

رد مع اقتباس